د. شهاب المكاحله
تعود عمان من جديد إلى الواجهة بعد أن غابت عنها لأسباب اقتصادية معقدة تسببت بها الظروف المحيطة بالأردن. واليوم ومع الجهد الملحوظ لما يقوم به جلالة الملك عبدالله الثاني من زيارات مكوكية او ما بات يصطلح عليه زيارات الساعات المحدودة لعدة دول في اليوم الواحد تنصب جميعها في خانة حشد الأردن لكافة الجهود الدبلوماسية والسياسية للوقوف في وجه القرار الذي اصدره الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأسبوع الماضي والذي اعترف فيه بالقدس عاصمة لإسرائيل.
يبدو أنه بعد أن ترك الأردن للدول العربية الكبرى قيادة المركب لعدم رغبته في تجاوز الأشقاء الأكبر منه، إلا أنه سرعان ما عاد من جديد مكوكاً لتحريك كافة الدول العربية والإسلامية للتداعي لمناقشة تداعيات الإعلان الأميركي بنقل سفارتها من تل أيبب إلى القدس واعتراف إدارة الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل.
لم تستطع الدول العربية الوقوف في وجه القرار الأميركي حتى تحرك الأردن وطالب بعقد اجتماع عاجل للجامعة العربية والتمهيد لعقد قمة عربية طارئة.
في الأيام الأخيرة ضاعف جلالة الملك عبدالله الثاني من نشاطاته وزياراته واتصالاته: فقبل أيام توجه إلى تركيا والتقى مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وكان لب الحديث «القدس أولاً». ولم تكن الزيارة التاريخية للملك عبدالله الثاني لأنقرة رداً على زيارة الرئيس التركي لعمان في نهاية أب الماضي بل هي ردة فعل طبيعية لأن تركيا تترأس منظمة التعاون الإسـلامـي والأردن يتراس الدول العربية بناء على قمة عمان التي عقدت في اذار الماضي.
نعلم أن تركيا تدعم الدور الأردني في وصايتها للقدس والمقدسات الإسلامية، وهو ما أكده الرئيس أردوغان في زيارته الأخيرة للمملكة وكذلك في قمة منظمة التعاون الاسلامي: وملف القدس هو الشغل الشاغل للقيادة الأردنية هذه الأيام.
كما أن لقاء جلالته مع القيادة الفلسطينية ثم التوجه إلى الرياض للقاء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده وسفره مرة أخرى إلى أنقرة لحضور القمة الإسلامية الطارئة يعني أن الأردن قد استعاد زمام المبادرة واستلم راية توحيد الصفين العربي والإسلامي بصفته الوصي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
نعم إنه الأردن الذي بدأت كل المؤامرات لتحييد دوره في القدس تبوء بالفشل وبات الدور الأردني أقوى رغم محاولات العديد من الدول تهميش الدور الأردني لحسابات آنية ومصالح شخصية. إن القضية الفلسطينية جزء لا يتجزأ من التاريخ الأردني، وتمثل أحد ثوابت عقيدة الشعب الأردني الدينية. وليس هناك دولة أكثر تأثراً بالقرار الأميركي من الأردن ليس لأنه يحتضن العديد من اللاجئين الفلسطينيين بل لأن الأردن تاريخياً مسؤول عن القدس كما أن الأردن تربطه صلة خاصة بفلسطين عامة والقدس والمقدسات خاصة. فمهما يكن القرار فإن تداعياته المباشرة ستكون في القدس ثم في الأردن لقربهما روحياً وجغرافياً.
ويبدو أن التحرك الأردني لا يعني فقط مواجهة القرار «الترمبي» بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل بل لإعطاء إشارة إلى الدول الأخرى التي قد تحذو حذو واشنطن بأن الإقدام على قرار مثل قرار الإدارة الأميركية يعني الاصطدام بالرفض العربي والإسلامي لأن من شأن أي قرار في هذا الخصوص ان يخلق مناخاً من عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط برمتها. يبدو أن تل أبيب تمكنت في السنوات العشر الماضية من زرع بذور الفتنة بين العرب أنفسهم وبين جيرانهم واليوم زرعت بذور الفتنة بين العرب أنفسهم عبر لعبها على حبل التطبيع دون قيود أو شروط ودون تنازلات وهي بذلك باتت مشكلة في خاصرة الوطن العربي من محيطه إلى خليجه. فلم تعد إسرائيل مشكلة للكثيرين على الرغم من كل ما تقوم به ضد الدول العربية وبخاصة الأردن الذي فقد إثنين من أبنائه في حادثة السفارة في صيف عام 2017.
يبدو إعلان ترمب مستفزاً من ناحيتين: أولهما أنه يريد أن يقيس مدى تحمل العرب وخصوصاً الفلسطينيين والأردنيين لتصريحاته التي يريد من خلالها معرفة ردة الفعل على نقل سفارة دولته من تل أبيب إلى القدس المحتلة وهي إشارة إلى أنه يعترف ضمناً أن القدس عاصمة لإسرائيل وأنه لا بد من إيجاد وطن بديل للفلسطينيين. وثانيهما أنه، أي ترمب، يريد مكافأة مجزية من الدول العربية للتنازل عن الإعلان ولو مؤقتاً لأن الإعلان يعني اندلاع احتجاجات في عدة عواصم عربية وإسلامية وهو ما لا تريده بعض الدول حالياً. لقد كانت زيارة جلالة الملك عبدالله الثاني لواشنطن نهاية شهر تشرين الثاني الماضي بمثابة توجس أردني من مغبة القيام بمثل هذه الخطوة لما له من أثر سلبي على المنطقة وعلى استقرارها وأمنها خصوصاً أن إجراءً كهذا يعني انتشار ظاهرة الإرهاب عالمياً مع حلول أعياد الميلاد ورأس السنة. لقد كانت تصريحات الملك عبدالله تحذيرية وشديدة اللهجة لما لذلك من تداعيات كبيرة على الساحة الفلسطينية والعربية والإسلامية إذا ما تم نقل السفارة.